فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)}.
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن لله عاقبة الأمور، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره، فقال: وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم، وذكر الله سبعة منهم.
فإن قيل: ولم قال: {وَكُذّبَ موسى} ولم يقل قوم موسى؟ فالجواب: من وجهين: الأول: أن موسى عليه السلام ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهم القبط الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسوله، وكذب موسى أيضًا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره.
أما قوله تعالى: {فَأمْلَيْتُ للكافرين} يعني أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي ثم أخذتهم بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام تقرير ي، أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب، أليس كان واقعًا قطعًا؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة وبالحياة موتًا وبالعمارة خرابًا؟ ألست أعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض.
فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم، فإنه تعالى إنما يمهل للمصلحة فلابد من الرضاء والتسليم، وإن شق ذلك على القلب.
واعلم أن بدون ذلك يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول عليه السلام، فكيف بذلك مع منزلته، لَكِنه في كل وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غمًا، فأجرى الله عادته بأن يصبره حالًا بعد حال، وقد تقدم ذكر هؤلاء المكذبين وبأي جنس من عذاب الاستئصال هلكوا.
وههنا بحث، وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم.
قال الحسن: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين: أحدهما: أن عند الله حد ا من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه والثاني: أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدًا منهم لا يؤمن، فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم الله أن أحدًا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب الله دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله: {حتى إِذَا استيئس الرسل} [يوسف: 110] أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ من قد آمن} [هود: 36] وإذا عذبهم الله تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله: {فَلَمَا جَاء أَمْرُنَا} [هود: 66] أي بالعذاب نجينا هودًا، واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة، فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير؟ قلنا إذا كان رادعًا لغيره وصادعًا له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيرًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {وإن يكذبوك} يعني قريشًا وهذه آية تسلية للنبي عليه السلام ووعيد قريش، وذلك أنه مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند فعلًا فيه علامة التأنيث إلى قوم من حيث أراد الأمة والقبيلة ليطرد القول في {عاد وثمود} و{قوم نوح} هم أول أمة كذبت نبيها ثم أسند التكذيب في موسى عليه السلام إلى من لم يسم من حيث لم يكذبه قومه بل كذبه القبط وقومه به مؤمنون، و{أمليت}، معناه فأمهلت وكأن الإمهال أن تمهل من تنوي فيه المعاقبة، وأنت في حين إمهالك عالم بفعله. والنكير، مصدر كالعذير بمعنى الإنكار والأعذار وهو في هذه المصادر بناء مبالغة فمعنى هذه الآية فكما فعلت بهذه الأمم كذلك أفعل بقومك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ثم أَخَذْتُهم} أي: بالعذاب {فكيف كان نَكير} أثبت الياء في {نكير} يعقوب في الحالَيْن، ووافقه ورش في إِثباتها في الوصل، والمعنى: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإِهلاك؟! والمعنى: إِني أنكرتُ عليهم أبلغ إنكار، وهذا استفهام معناه التقرير. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)}.
هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزيةٌ؛ أي كان قبلك أنبياء كُذِّبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذِّبين، فاقتد بهم واصبر.
{وَكُذِّبَ موسى} أي كذبه فرعون وقومُه.
فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقومُ موسى.
{فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي أخّرت عنهم العقوبة.
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم.
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام بمعنى التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش.
قال الجوهريّ: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وإن يكذبوك} الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة، وبنى الفعل للمفعول في {وكذب موسى} أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط {فأمليت للكافرين} أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم، وفي قوله: {فأمليت للكافرين} ترتيب الإملاء على وصف الكفر، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}.
تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم متضمِّنةٌ للوعدِ الكريمِ بإهلاكِ مَن يُعاديه من الكفَرَةِ وتعيينٌ لكيفيَّةِ نصرِه تعالى له الموعودِ بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} وبيانٌ لرجوعِ عاقبةِ الأمور إليه تعالى. وصيغةُ المضارع في الشَّرطِ مع تحقُّقِ التَّكذيبِ لما أنَّ المقصودَ تسليتُه عليه السلام عمَا يترتَّبُ على التَّكذيبِ من الحزن المتوقَّعِ أي وإنْ تحزنْ على تكذيبِهم إيَّاك فاعلم أنَّك لست بأوحديَ في ذلك فقد كذَّبتْ قبل تكذيبِ قومِك إيَّاك قومُ نوحٍ {وَعَادٍ وَثَمُودَ} {وَقَوْمِ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ} {وأصحاب مَدْيَنَ} أي رُسُلَهم ممَّن ذُكر ومَن لم يُذكر، وإنَّما حُذف لكمال ظهور المرادِ أو لأنَّ المرادَ نفسُ الفعل أي فعلتْ التَّكذيبَ قومُ نوحٍ إلى آخره. {وَكُذّبَ موسى} غُيِّر النَّظمُ الكريم بذكرِ المفعولِ وبناء الفعل له لا لأنَّ قومَه بنوُ إسرائيل وهم لم يكذِّبوه وإنَّما كذَّبه القِبْطُ لما أنَّ ذلك إنَّما يقتضي عدمَ ذكرِهم بعُنوان كونِهم قومَ مُوسى لا بعنوانٍ آخرَ على أنَّ بني إسرائيلَ أيضًا قد كذَّبوه مرَّةً بعد أُخرى حسبما نطقَ به قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} ونحو ذلك من الآياتِ الكريمة بل للإيذانِ بأنَّ تكذيبَهم له كان في غاية الشَّناعةِ لكون آياتِه في كمال الوضوحِ وقوله تعالى: {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أي أمهلتهم حتَّى انصرمتْ حبالُ آجالِهم. والفاءُ لترتيبِ إمهالِ كلِّ فريقٍ من فِرق المكذِّبينَ على تكذيب ذلك الفريقِ لا لترتيب إمهال الكلِّ على تكذيب الكلِّ. ووضعُ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ العائد إلى المكذِّبين لذمِّهم بالكفرِ والتَّصريحِ بمكذبِي موسى عليه السلام حيثُ لم يذكروا فيما قبل صَريحًا {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أخذتُ كلَّ فريقٍ من فرق المكذِّبين بعد انقضاء مدَّةِ إملائِه وإمهالِه {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بالإهلاك أي فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)}.
تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسليته عليه الصلاة والسلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق {كَذَّبَ} تاء التأنيث لأن الفاعل وهو {قَوْمٌ} اسم جمع يحوز تذكيره وتأنيثه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه، وفي اختيار التأنيث حط لقدر المكذبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد.
وجوز أن يكون الفعل منزلًا منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء، ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون، وتكذيب هؤلاء أيضًا أسبق وأشد، والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام عن تكذيب قومه أي وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدى في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح الخ {وَكُذّبَ موسى} المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بإسرهم ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل: {قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمِ إبراهيم} وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنيًّا للمفعول فللإيذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة والسلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم.
والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل.
ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحًا {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله.
والأخذ كناية عن الإهلاك {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلًا يردعه بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار.
وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء، والاستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم، وفي الجملة إرهاب لقريش. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ}.
وهم قوم هود: {وَثَمُودُ} وهم قوم صالح: {وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} وهم قوم شعيب: {وَكُذِّبَ مُوسَى} وإنما لم يقل وقوم موسى كسابقه، لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر كأنه قيل، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: {وَكُذِّبَ مُوسَى} مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره؟ أفاده الزمخشري.
قال الناصر: ويحتمل عندي، والله أعلم، أنه لما صدّر الكلام بحكاية تكذيبهم، ثم عدّد أصناف المكذبين وطوائفهم، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام، حسن تكريره لِيَلِي قوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} فيتصل المسبب بالسبب، كما قال في آية ق بعد تعديدهم: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [قّ: 14]، فربط العقاب والوعيد، ووصلهما بالتعذيب، بعد أن جدد ذكره، والله أعلم.
وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو ردّ دعوة النبيّ وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه. وما وقع من قوم موسى هو تخليط، وخطأ اجتهاد، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته، والانتظام في سلك إجابته. وقوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي: أمهلتهم: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي: بالعقوبة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: إنكاري عليهم بالإهلاك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)}.
لما نعى على المشركين مساويَهم في شؤون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدّهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه، عُطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فقُصد من ذلك تسليّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتمثيلُهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم، ونظير هذه الآية إجمالًا وتفصيلًا تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها.
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله: {فقد كذبت قبلهم} الخ إذ التقدير: فلا عجب في تكذيبهم، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم.
وقوم إبراهيم هم الكلدان، وأصحاب مَدْين هم قوم شُعيب، وإنما لم يعبّر عنهم بقوم شُعيب لئلا يتكرر لفظ قَوم أكثر من ثلاث مرات.
وقال: {وكذب موسى} لأن مُكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل.
وقوله: {فأمليتُ للكافرين} معناه فأمليت لهم، فوُضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذِهم هو الكفر بالرسُل تعريضًا بالنذارة لمشركي قُريش.
والأخذ حقيقته: التناول لِما لم يكن في اليد، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاءُ ذلك الإملاء بالتناول، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [سورة الأنبياء: 70] {وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين} مشير إلى سُوءِ عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك.
ومناسبة عَدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذُكر فيها من أُخذوا من الأقوام، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبهًا بمشركي قُريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه.
وألجأوه إلى الخروج من موطنه {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99].
فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} [الحج: 40] مناسبةٌ لذكر قوم إبراهيم.
والإملاءُ: ترك المتلبّس بالعِصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نَجا ثم يؤخذ بالعقوبة.
والفاء في {فأمليت للكافرين} للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أُخر لهم، وهو تعقيب موزع، فلكل قوم من هؤلاء تعقيبُ إملائه، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة، فلذلك عطف فعلُه بحرف المهلة.
وعطفت جملة {فكيف كان نكير} بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ، وهو استفهام تعجيبي، أي فأعْجَب من نكيري كيف حصل.
ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة مِحنة، وبالحياة هلاكًا، وبالعمارة خرابًا فهو عبرة لغيرهم.
والنكير: الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي يُنكَر عليه:
و{نكيرِ} بكسرة في آخره دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفًا.
وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم، فإن الله عاقب على المنكر بأشد العقاب، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله، وقد قال الحكماء: إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم. اهـ.